في بلاد الألمان …

 

في بلاد الألمان ... ثورة التقطها في ألمانيا

 

ناذرا ما تكتمل الأحلام في وطن الغربة والتيه، وقلما ينصف القدر أحد أبنائه برؤية أحلامه أو جزء منها تخرج للوجود معلنة ميلادها.

أصعب إحساس يمكن أن تستشعره هو الغربة في الوطن، وقفت أتأمل ما الذي قدمه لي وطني ؟ فلم أجد أي جواب لسؤالي ، ببساطة لم يقدم لي أي شيء …

كنت أحلم أن يأتي يوم أستنشق فيه نسيم أوروبا العليل، أن أجوب شوارعها النظيفة، أن أقف متأملا كيف بلغت شعوبها تلك الحضارة التي سمعت عنها دائما …

إستجاب القدر، وكنت عضوا ضمن بعثة علمية ، ممن سيحلون ضيفا على جامعة فرانكفورت بألمانيا لمدة أسبوع.

كانت الصدمة كبير منذ أول موطئ قدم لنا هناك، وكان أول ما فعلته هو استنشاق هواء أوروبا الذي طالما حلمت باستنشاقه … كان رائعا روعة ألمانيا …

ألمانيا بلد تجاوزنا بملايين السنين الضوئية، كفانا من التفاؤل المفرط لحد المثالية، لن نبلغ ما بلغه شعب الألمان قط، لنفترض جدلا أننا سنصله ذات يوم، كم من السنين ستكفينا؟ وهل سيبقى هذا الوطن كل تلك السنين حتى يحقق شيئا ما بلغه الالمان؟

أسئلة لا تحتاج لأن يجيب عنها أحد.

أحس بحزن شديد عتدما أتذكر أني سأعود للمغرب، سأعود للغربة من جديد بعد أن أستشعرت حقيقة الوطن في بلد لم أولد فيه، بلد لا أعرف لا لغته ولا تقاليده … ، ورغم ذلك قد انشرح صدري منذ أول يوم لي فيه، ليست الغربة دائما البعد عن الأقارب والأحباب، أو الهجرة لوطن غير الذي ترعرعت فيه، الغربة هي أن تولد في بلد لا يتذكرك إلا في حال الحروب وغزو المستعمر  ليجندك ضد العدو، الغربة هي أن تجد نفسك في وطن يجعل من  مطالبنك بحقوقك الطبيعية جريمة يعاقب عليها القانون، الغربة هي أن تحس بالتيه والضياع في وطنك، الغربة هي أن تبلغ  العشرينات من العمر وما تزال عبئا على والديك، الغربة هي أن لا تجد للإستقرار المادي والنفسي سبيلا في وطن كهذا الوطن، الغربة هي هذا الوطن …

في ألمانيا يستشعر الفرد قيمته كشخص وكرامته كإنسان، يعيش غالبية الألمان رفاها اجتماعيا واقتصاديا، يعيشون ليومهم فتجدهم يلملؤونه فرحا وبهجة، في كل مساء تجد في المدينة لوحات فنية وثقافية متنوعة، تجسد حضارة الشعب الألماني، وتوحي برقيه الفكري …، ألمانيا دولة تعطي قيمة لأفرادها وتعرف أن بناء الدولة والوطن متوقف على أفراد المجتمع.

شوارع نظيفة، مواصلات متنوعة وحديثة، جامعات تواكب آخر البرامج التعليمية وتساير التقدم العلمي، وتوفر لأبناء المانيا فضاء حقيقيا للدراسة والتعلم، نظام تعليمي غاية في الدقة يساير حاجيات الدولة ويخرج طاقات تعمل على إنماء المجتمع.

أطر جامعية غاية في التواضع، رئيس جامعة يدخل بكل بساطة ليتناول وجبة الغذاء إلى جانب الطلبة، وأساتذة يتجولون بدراجتهم الهوائية في رحاب الجامعة …

طلبة مجدون يقومون بكل شيء غير أن كتبهم لا تفارق أناملهم …

تحدث بعض زملائي في البعثة عن العنصرية، أمر غريب جدا، نحن دائما نبحث عن المشكل في غياب المشكل، لا أرى أبدا أن دولة سمحت لأكثر من 150جنسية بالتواجد في أراضيها أن نقول عنها عنصرية، إن الفئات المهاجرة هي من تكون صورة سلبية لدى الالمان، وما أكثر الجرائم التي يرتكبها بعض المهاجرين هناك …

يقال بأن سلوكات بسيطة، كالنظرة مثلا قد تجسد تعبيرا عنصريا رمزيا، أرى بأن المشكل هو مشكل ثقافي باللأساس، هذا الأخير يولد صراعا ثقافيا رمزيا بين السكان الأصليين والمهاجرين…

فقد تحس بأن بعض الألمان ينظرون إليك وأنت تتناول مثلا وجبة من الوجبات، مشكل وقع لنا جميعا أعضاء البعثة، وبعد مدة من إقامتنا هناك اكتشفنا أننا نضع في الإناء أضعاف ما يضعه الطلبة الألمان في أوانيهم،ونراه أمرا عاديا، لنكتشف بعد مدة أن ثقافة الأكل عندنا تختلف تماما لديهم …

أمور كثيرة ربما نراها عنصرية إلا أنها وبعد إعمال عقل واحتكاك مباشر تتضح أنها لا تمث للعنصرية بصلة، فكيف يمكن أن تعرف أن الألمان عنصريون وأنت لا تعرف حتى لغتهم ولم تحتك بهم بالدرجة التي تمكن من فهم ثقافتهم وفك رموزها … فاللغة هي المدخل الأساس لفهم اي ثقافة، ونحن لا نعرف حتى لغتهم ونحكم على بعضهم أنه عنصري، فقط لأنه نظر إلينا باستغراب…

ألمانيا دولة بلغت من الحضارة مبلغا لسنا ببالغيه، والعيش في ألمانيا يعلمك معنى أنك إنسان، بمجرد أن ترى الآخر تفهم معنى الوطنية والمواطنة والإنسانية، تفهم معنى الحقوق والواجبات، تعرف معنى القانون فوق الجميع، تفهم معنى العدل والديموقراطية … مفاهيم مجردة في وطننا نعرف فقط كيف نكتبها ونبحث عن معناها في الكتب، ونحلم بها في أحلامنا الوردية …

ألمانيا وطن، لا غربة فيه ولا ضياع، حتى المشردون تسعى الدولة جاهدة لتكفل لهم حقوقهم، المدمنون يحتضنهم وطنهم، كل الفئات التي نراها مهمشة في وطننا،  نجدها في المقابل تلقى عناية ودعما ماديا ومعنويا في ألمانيا الوطن الحقيقي …

المهاجرون أنفسهم توفر لهم الدولة حقوقهم التي تكفل لهم إنسانيتهم، وتحفظ لهم كرامتهم، إن كانت العنصرية في المانيا فلماذا لا تعود لوطنك الأم؟

لقد وجد كل مهاجر في المانيا حلقة ضائعة من ذاته وكيانه، فقد كل شيء في وطنه الأم، ولولا العاطفة التي تشده لأهله وذويه لنسي أنه كان يوما في وطن غير ألمانيا …

أن تزور ألمانيا يعلمك الكثير، أمور لا يمكن أن تقرأ عنها أو تسمعها من أحد …، زيارة ألمانيا أكدت لي فعلا أني غريب في هذا الوطن، زيارة المانيا جعلت حلم الهجرة يتعمق في دواخلي، في ألمانيا اكتشفت معنى أن تكون إنسانا، معنى أن تكون مواطنا، معنى الكرامة ومعنى القيمة … وفي ألمانيا اكتشفت معنى الوطن …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *